تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

الله وأتى بما دون من ، قال الجلال المحلي : تغليبا للأكثر ، ويحتمل أن يكون المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها ، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها (الْمَلِكِ) أي : الذي ثبت له جميع الكمالات ، فهو ينصر من يشاء من جنده ولو كان ذليلا فيصبح ظاهرا (الْقُدُّوسِ) أي : المنزه عما لا يليق به ، وعن إحاطة أحد من الخلق بعلمه وإدراك كنه ذاته فليس في أيدي الخلق إلا التردد في شهود أفعاله والتدبير لمفاهيم نعوته وجلاله وأحقهم بالقرب والعداد في حزبه المتخلق بأوصافه على قدر اجتهاده ، فينبغي للمؤمن التنزه عن أن يقول ما لا يفعل ، أو يبني شيئا من أموره على غير إحكام (الْعَزِيزِ) أي : الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء (الْحَكِيمِ) أي : الذي يوقع كل ما أراد في أحكم مواقعه وأتمها وأتقنها.

(هُوَ) أي : وحده (الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) أي : العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون ، والأمي : من لا يقرأ ولا يكتب (رَسُولاً مِنْهُمْ) أي : من جملتهم أميا مثلهم ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما من حي من العرب إلا وله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم قرابة ، وقد ولدوه. قال ابن إسحاق : إلا بني تغلب فإن الله تعالى طهر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم فلم يجعل لهم عليه ولادة ، وكان أميا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صلى‌الله‌عليه‌وسلم علمه الله ما لم يكن يعلم من غير تطلب ، فكانت آثار البشرية عنه مندرسة وأنوار الحقائق علية لائحة ، وذلك لئلا يتوهم الافتقار إلى الاستعانة بالكتب لأن مشاكلته لحال من بعث فيهم أقرب إلى مساواتهم له لو أمكنهم فيكون معنى عدم إمكان المساواة أدل على الإعجاز ، وبعثه إلى العرب لا ينفي بعثه إلى غيرهم لا سيما مع ما ورد فيه من صرائح الدلائل القطعية ، فذكر موضع البعث وابتداءه فتكون الغاية مطلقة تقديرها إلى عامة الخلق (يَتْلُوا) أي : يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضا على وجه الكثرة والعلو والرفعة (عَلَيْهِمْ) مع كونه أميا مثلهم (آياتِهِ) أي : يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة ، وهي القرآن الذي أعجز الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله (وَيُزَكِّيهِمْ) أي : يطهرهم من الشرك والأخلاق الرذيلة ، والعقائد الزائغة فكانت تزكيته لهم مدة حياته بنظره الشريف إليهم ، وتعليمه لهم وتلاوته عليهم ، فربما نظر الإنسان نظرة محبة فزكاه الله تعالى بها بحسب القابليات والأمور التي قضى الله تعالى أن تكون مهيآت فكان له أعشق فكان لاتباعه ألزم فكان في كتاب الله وسنته أرسخ (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي : القرآن المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى والأخرى (وَالْحِكْمَةَ) هي غاية الحكم للكتاب في قوة فهمه والعمل به فهي العمل المزين بالعلم المتقن به ، وقال الحسن : الكتاب : القرآن ، والحكمة : السنة. وقال ابن عباس : الكتاب الخط بالقلم ، والحكمة : السنة ، لأن الخط إنما فشا في العرب بالشرع لما أمروا بالتقييد بالخط. وقال مالك بن أنس : الحكمة : الفقه في الدين (وَإِنْ) أي : والحال أنهم (كانُوا) أي : كونا هو كالجبلة لهم (مِنْ قَبْلُ) أي : قبل إرساله إليهم (لَفِي ضَلالٍ) أي : بعد عن المقصود (مُبِينٍ) أي : ظاهر في نفسه مناد لغيره أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة ، وظنهم أنهم على شيء ، وعموم الجهل لهم ورضاهم به واختيارهم له.

وقوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) فيه وجهان : أحدهما : أنه مجرور عطفا على الأميين ، أي : وبعث في الآخرين من الأميين ، أي : الموجودين والآتين منهم بعدهم (لَمَّا) أي : لم (يَلْحَقُوا بِهِمْ) في السابقة والفصل والثاني : أنه منصوب عطفا على الضمير المنصوب في يعلمهم ، أي : ويعلم آخرين لما يلحقوا بهم وسيلحقون ، وكل من تعلم شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى آخر

٣٠١

الزمان فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معلمه بالقوة ، لأنه أصل ذلك الخير العظيم والفضل الجسيم.

تنبيه : الذين لم يلحقوا بهم هم الذين لم يكونوا في زمنهم وسيجيئون بعدهم. قال ابن عمر وسعيد بن جبير : هم العجم ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : «كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال رجل : من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثا ، قال : وفينا سلمان الفارسي ، قال : «فوضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على سلمان ثم قال : «لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجل من هؤلاء» (١) وفي رواية «لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجال من فارس» (٢) أو قال : من أبناء فارس حتى تتناوله. وقال عكرمة : هم التابعون ، وقال مجاهد : هم الناس كلهم ، يعني : من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن زيد ، ومقاتل بن حبان : هم من دخل في الإسلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة.

وروى سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن في أصلاب أمتي رجالا ونساء يدخلون الجنة بغير حساب ، ثم تلا وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» (٣) قال ابن عادل : والقول الأول أثبت. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رأيتني أسقي غنما سودا ، ثم أتبعتها غنما عقرا أولها يا أبا بكر ، قال : يا نبي الله أما السود فالعرب ، وأما العقر فالعجم تتبعك بعد العرب ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كذلك أولها الملك يعني جبريل عليه الصلاة والسلام» (٤) رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. (وَهُوَ) أي : والحال أنه وحده (الْعَزِيزُ) أي : الذي يقدر على كل ما أراده ، ولا يغلبه شيء فهو يزكي من يشاء ويعلمه ما أراد من أي طائفة كان ، ولو كان أجهل أهل تلك الطائفة لأن الأشياء كلها بيده (الْحَكِيمُ) فهو إذا أراد شيئا موافقا لشرعه وأمره جعله على أتقن الوجوه وأوثقها ، فلا يستطاع نقضه ومهما أراده كيف كان فلا بد من إنفاذه فلا يطاق ردة بوجه.

ولما كان هذا أمرا باهرا عظمه بقوله تعالى على وجه الاستثمار من قدرته : (ذلِكَ) الأمر العظيم الرتبة من تفضيل الرسول وقومه ، وجعلهم متبوعين بعد أن كان العرب أتباعا لا وزن لهم عند غيرهم من الطوائف (فَضْلُ اللهِ) أي : الذي له جميع صفات الكمال والفضل ما لم يكن مستحقا بخلاف الفرض (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) قال ابن عباس : حيث ألحق العجم بقريش ، وقال الكلبي : يعني الإسلام فضل الله يؤتيه من يشاء ، وقال مقاتل : يعني الوحي والنبوة.

وقيل : إنه المال ينفق في الطاعة لما روى أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، فقال : وما ذاك؟ فقالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٨٩٧.

(٢) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٥٤٦ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٦١.

(٣) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٦ / ٢٤٨ ، وابن كثير في تفسيره ٨ / ١٤٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٢١٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٤٥٧٢.

(٤) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٨ / ٩٣.

٣٠٢

نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : تسبحون ، وتكبرون ، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة ، قال أبو صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقالوا : سمع إخواننا من أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (١) وقيل : إنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودخولهم في دينه ونصرته (وَاللهُ) الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلما (ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.)

ولما ترك اليهود العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب الله تعالى لهم مثلا بقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أي : كلفوا وألزموا حمل الكتاب الذي آتاه الله تعالى لبني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام ، بأن علمهم إياها سبحانه وكلفهم حفظ ألفاظها عن التغيير والنسيان ومعانيها عن التحريف والتلبيس ، وحدودها وأحكامها عن الإهمال والتضييع (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) أي : بأن حملوا ألفاظها ولم يعملوا بما فيها من الوصية باتباع عيسى عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم ، ثم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جاء فهي ضارة لهم بشهادتها عليهم فإذا لهم النار من غير نفع أصلا (كَمَثَلِ) أي : مثلهم مثل (الْحِمارِ) أي : الذي هو أبلد الحيوان فهو مثل في الغباوة حال كونه (يَحْمِلُ أَسْفاراً) أي : كتبا كبارا من كتب العلم جمع سفر ، وهو الكتاب الكبير المسفر عما فيه ، في عدم الانتفاع بها لأنه يمشي ولا يدري منها إلا ما يضر بجنبيه وظهره من الكد والتعب ، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله ومثل ذلك قول الشاعر (٢) :

زوامل للأسفار لا علم عندهم

بجيدها إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدا

بأحماله أو راح ما في الغرائر

من إنشاد الشيخ ابن الخباز. (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) أي : الذين لهم قوة شديدة على محاولة ما يريدون (الَّذِينَ كَذَّبُوا) أي : محمدا على علم (بِآياتِ اللهِ) أي : دلالات الملك الأعظم على رسوله ، ولا سيما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمخصوص بالذم محذوف تقديره : هذا المثل (وَاللهُ) أي : الذي له جميع صفات الكمال (لا يَهْدِي الْقَوْمَ) أي : لا يخلق الهداية في قلوب الذين تعمدوا الزيغ (الظَّالِمِينَ) أي : الذين تعمدوا الظلم بمنابذة الهدى الذي هو البيان ، الذي لم يدع لبسا حتى صار الظلم لهم صفة راسخة.

ولما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه نزل قوله تعالى : (قُلْ) أي : يا أشرف الرسل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) أي : تدينوا باليهودية (إِنْ زَعَمْتُمْ) أي : قلتم قولا هو معرض للتكذيب ، ولذلك أكذبتموه (أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) أي : الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه خصكم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان باب ١٥٥ ، والدعوات باب ١٧ ، ومسلم في المساجد حديث ١٤٢ ، والزكاة حديث ٥٣ ، وأبو داود في الوتر باب ٢٤ ، ابن ماجه في الإقامة باب ٣٢ ، والدارمي في الصلاة باب ٩٠ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٨ ، ٥ / ١٦٧ ، ١٦٨.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما لمروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة في ديوانه ص ٥٨ ، ولسان العرب (زمل) ، وتاج العروس (زمل).

٣٠٣

بذلك خصوصية مبتدأة (مِنْ دُونِ) أي : أدنى رتبة من رتب (النَّاسِ) فلم تنفذ الولاية ، وتلك الرتبة في الدنيا إلى أحد منهم غيركم بل خصكم بذلك عن كل من فيه أهلية الحركة لا سيما الأميين (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) وأخبروا عن أنفسكم بذلك للنقلة من دار البلاء إلى محل الكرامة والآلاء (إِنْ كُنْتُمْ) أي : كونا راسخا (صادِقِينَ) أي : غريقين عند أنفسكم في الصدق ، فإن من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب ، ومن المقطوع به أن من كان في كدر وكان له ولي قد وعده عند الوصول إليه الراحة التي لا يشوبها ضرر تمنى النقلة إلى وليه. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منهم إلا غص بريقه» (١) فلم يقلها منهم أحد علما منهم بصدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يقولوا ولم يؤمنوا عنادا منهم.

ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يتمنونه في المستقبل أيضا بقوله تعالى : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) أي : في المستقبل (أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : بسبب ما قدموا من الكفر والمعاصي التي أحاطت به فلم تدع لهم حظا في الآخرة.

تنبيه : قال تعالى هنا : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) وفي البقرة (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) [البقرة : ٩٥] قال الزمخشري : لا فرق بين لا ولن في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل ، إلا أن في لن تأكيدا وتشديدا ليس في لا فأتى مرة بلفظ التأكيد (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) ومرة بغير لفظه (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) قال أبو حيان : وهذا رجوع منه عن مذهبه وهو أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة ، وهي أنها لا تقتضيه. قال بعضهم : وليس فيه رجوع ، غاية ما فيه أنه سكت عنه ، وتشريكه بين لا ولن في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص لن بمعنى آخر ا. ه. ودعواهم الولاية إلى التوسل إلى الجنة لا يلزم منها الاختصاص بالنعم بدليل أن الدنيا ليست خالصة للأولياء المحقق لهم الولاية بل البر والفاجر مشتركون فيها. (وَاللهُ) أي : الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلما (عَلِيمٌ) بالغ العلم محيط بهم هكذا كان الأصل ولكنه تعالى قال : (بِالظَّالِمِينَ) تعميما وتعليقا بالوصف لا بالذات ، فالمعنى أنه عالم بأصحاب هذا الوصف الراسخين فيه منهم ومن غيرهم ، فهو مجازيهم على ظلمهم.

(قُلْ) أي : لهؤلاء يا أشرف الرسل (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) بالكف عن التمني (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) أي : لا تفوتونه لا حق بكم.

تنبيه : في هذه الفاء وجهان : أحدهما : إنها داخلة لما تضمنه الاسم من معنى الشرط ، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول في ذلك. قال الزجاج : لا يقال : إن زيدا فمنطلق ، وههنا قال : (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) لما في معنى الذي من الشرط أو الجزاء ، أي : إن فررتم منه فإنه ملاقيكم ، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه. الثاني : إنها مزيدة محضة لا للتضمن المذكور.

ولما كان الحبس في البرزخ أمرا لا بد منه مهولا نبه عليه وعلى طوله بأداة التراخي فقال تعالى : (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ) أي : السر (وَالشَّهادَةِ) أي : العلانية ، أو كل ما غاب عن الخلق ، وكل ما شوهد (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي : يخبركم إخبارا عظيما مستقصى مستوفى (بِما كُنْتُمْ) أي :

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ١١٧.

٣٠٤

بما هو لكم كالجبلة (تَعْمَلُونَ) أي : بكل جزء منه بما برز إلى الخارج ، وبما كان في جبلاتكم ولو بقيتم لفعلتموه ليجازيكم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بألسنتهم بالإيمان (إِذا نُودِيَ) أي : من أي مناد كان من أهل النداء (لِلصَّلاةِ) أي : صلاة الجمعة (مِنْ) أي : في (يَوْمِ الْجُمُعَةِ) كقوله تعالى : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [فاطر : ٤٠] أي : في الأرض ، والمراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة ، لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نداء سواه ، كان إذا جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر أذن بلال ، وعن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الدور ، زاد في رواية فثبت الأمر على ذلك.

وعن أبي داود قال : كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جلس يوم الجمعة على المنبر على باب المسجد ، روي أنه كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد ، فإذا نزل أقام الصلاة ، ثم كان أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة على ذلك حتى إذا كان عثمان ، وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذانا آخر ، فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء ، فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن الأذان الثاني الذي كان على زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا نزل أقام الصلاة ، فلم يعب ذلك عليه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (١).

قال الماوردي : أما الأذان الأول فمحدث فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها ، وكان عمر أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن سوقهم ، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد فجعله عثمان أذانين في المسجد. قال ابن العربي : وفي الحديث الصحيح : «أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا ، فلما كان زمن عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء» (٢) ، وسماه في الحديث ثالثا لأنه أضافه إلى الإقامة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بين كل إذانين صلاة لمن شاء» (٣) يعني : الأذان والإقامة ، وتوهم بعض الناس أنه أذان أصلي فجعلوا

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنة حديث ٤٦٠٧ ، والترمذي في العلم حديث ٢٦٧٦ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٤٢ ، والدارمي في المقدمة حديث ٩٥ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٢٦ ، ١٢٧.

(٢) أخرجه البخاري في الجمعة حديث ٩١٢ ، والترمذي في الجمعة حديث ٥١٦ ، والنسائي في الجمعة حديث ١٣٩٢.

(٣) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٦٢٧ ، ومسلم في المسافرين حديث ٨٣٨ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٢٨٣ والترمذي في الصلاة حديث ١٨٥ ، والنسائي في الأذان حديث ٦٨١ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١١٦٢.

٣٠٥

المؤذنين ثلاثة. قال ابن عادل : فكان وهما ، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهما على وهم.

واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة فمنهم من قال : لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام. روى مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام ، وفيه أهبط ، وفيه مات وفيه تاب الله عليه ، وفيه تقوم الساعة ، وهو عند الله يوم المزيد» (١) وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتاني جبريل وفي كفه مرآة بيضاء ، وقال : هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيدا ولأمتك من بعدك ، وهو سيد الأيام عندنا ، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد» (٢) ومنهم من قال : لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات ، ومنهم من قال : لاجتماع الجماعات فيه للصلاة ، وقيل : أول من سمى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤي.

قال أبو سلمة : أول من قال أما بعد : كعب بن لؤي ، وكان أول من سمى الجمعة جمعة ، وكان يقول له : يوم العروبة. وعن ابن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة. وقيل : إن الأنصار قالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك ، فهلموا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى فيه ونصلي ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين ، وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، ثم أنزل الله تعالى آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام.

وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة ، فقلت له : إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة ، قال : لأنه أول من جمع بنا في هزم النبت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له : بقيع الخضمات ، قلت له : كم كنتم يومئذ ، قال : أربعين» (٣) أخرجه أبو داوود.

وأما أول جمعة جمعها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه ، فقال أهل السير : لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، حين اشتد الضحى ومن تلك السنة يعد التاريخ ، فأقام بها إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة ، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا ، فجمع بهم وخطب وهي أول خطبة خطبها بالمدينة. وقال فيها : «الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره ، وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره ، وأعادي من يكفر به ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ، والنور والموعظة ، والحكمة على فترة من الرسل ، وقلة من العلم ،

__________________

(١) تقدم الحديث مع تخريجه.

(٢) أخرجه بنحوه ابن أبي شيبة في المصنف ٢ / ١٥٠ ، والطبري في تفسيره ٢٦ / ٢٠٩ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٤٢١ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ٥٥٣ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٣ / ٢١٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢١٠٦٣.

(٣) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ١٠٦٩.

٣٠٦

وضلالة من الناس ، وانقطاع من الزمان ، ودنو من الساعة وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط ، وضل ضلالا بعيدا أوصيكم بتقوى الله فإن خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة ، وأن يأمره بتقوى الله ، واحذروا ما حذركم الله من نفسه فإن تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه عنوان صدق على ما تبغون من الآخرة ، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي به إلا وجه الله يكون له ذكرا في عاجل أمره ، وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم ، وما كان مما سوى ذلك (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [آل عمران : ٣٠] وهو الذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك ، فإنه يقول : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٢٩) [ق : ٢٩] فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية ، فإنه من يتق الله يكفر عن سيئاته ويعظم له أجرا (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب : ٧١] وإن تقوى الله توقي مقته ، وتوقي عقوبته ، وتوقي سخطه ، وإن تقوى الله تبيض الوجه ، وترضي الرب ، وترفع الدرجة فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله فقد علمكم في كتابه ، وأوضح لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين وأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده (هُوَ اجْتَباكُمْ) [الحج : ٧٨] و (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) [الحج : ٧٨] ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيّ عن بينة ولا حول ولا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله تعالى واعملوا لما بعد الموت ، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس ، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه ، ويملك من الناس ولا يملكون منه ، الله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» (١).

قال بعضهم : قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه ، فكذبهم في قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم الله بالحمار يحمل أسفارا وبالسبت وإنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله تعالى لهم يوم الجمعة.

تنبيه : سمى الله تعالى الجمعة ذكرا له ، قال أبو حنيفة : إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكر الله كقوله : الحمد لله سبحان الله جاز ، وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال : الحمد لله ؛ فارتج عليه ، فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا ، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال ، وستأتيكم الخطب ، ثم نزل وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر عليه أحد.

وعند صاحبيه والشافعي لا بد من كلام يسمى خطبة ، ولها أركان وشروط مذكورة في الفقه.

فإن قيل : كيف يفسر ذكر الله بالخطبة ، وفيها ذكر غير الله؟

أجيب : بأن ما كان من ذكر رسوله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين ، وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله ، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم ، وهم أحق بعكس ذلك فمن ذكر الشيطان.

وهو من ذكر الله على مراحل فإن المنصت للخطبة إذا قال لصاحبه : صه فقد لغا ، أفلا يكون

__________________

(١) انظر القرطبي في تفسيره ١٨ / ٩٩.

٣٠٧

الخطيب المغالي في ذلك لاغيا نعوذ بالله من غربة الإسلام ، ومن نكد الأيام وقد خاطب الله تعالى المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفا لهم وتكريما ، فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ثم خصه بالنداء وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ليدل على وجوبه وتأكد فرضه. وقال بعض العلماء : كون الصلاة الجمعة ههنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ ، وقال ابن العربي : وعندي إنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة ، وهي قوله تعالى : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) وذلك يفيده لأن النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة ، وأما غيرها فهو عام في سائر الأيام ، ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى فلا فائدة فيه.

واختلف في معنى قوله تعالى : (فَاسْعَوْا) أي : لتكونوا أولياء الله ولا تتهاونوا في ذلك. فقال الحسن : والله ما هو سعي على الأقدام ، ولكن سعي بالقلوب والنية ، وقال الجمهور : السعي : العمل لقوله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [الإسراء : ١٩] كقوله تعالى : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل : ٤] وقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] وعن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، ولكن أئتوها تمشون وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (١) واختلفوا أيضا : في معنى قوله تعالى : (إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي : الملك الأعظم ، فقال سعيد بن المسيب : هو موعظة الإمام ، وقال غيره : الخطبة والصلاة المذكرة بالملك الأعظم الذي من انقطع عن خدمته هلك.

ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة قال تعالى ناهيا عن تجارة الدنيا التي تعوق عن الجمعة (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي : اتركوا البيع والشراء ؛ لأن اسم البيع يتناولهما جميعا ، وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني. وقال الزهري : عند خروج الإمام ، وقال الضحاك : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء. وإنما خص البيع من بين الأمور الشاغلة عن ذكر الله تعالى ، لأن يوم الجمعة يوم تهبط الناس فيه من بواديهم وقراهم ، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم ، واختصاص الأسواق إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى ، ودنا وقت الظهيرة وحينئذ تنجز التجارة ويتكاثر البيع والشراء ، فلما كان ذلك الوقت مظنة للذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد قيل : بادروا تجارة الآخرة ، واتركوا تجارة الدنيا ، واسعوا إلى ذكر الله (ذلِكُمْ) أي : الأمر العالي الرتبة من فعل السعي ، وترك الاشتغال بالدنيا (خَيْرٌ لَكُمْ) لأن الأمر الذي أمركم به الذي له الأمر كله ، وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم.

فإن قيل : إذا كان البيع في هذا الوقت محرما فهل هو فاسد؟.

أجيب : بأن عامة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع ، قالوا : لأن البيع لم يحرم لعينه ، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة ، والثوب المغصوب ، والوضوء بماء مغصوب ، وعن بعض الناس أنه فاسد. وزاد في الحث على ذلك بقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ) أي : بما هو لكم كالجبلة (تَعْلَمُونَ) أي : يتجدد لكم علم في يوم من الأيام

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجمعة باب ١٨ ، ومسلم في المساجد حديث ٦٠٢ ، وأبو داود في الصلاة باب ٥٤ ، والترمذي في الصلاة حديث ٣٢٧ ، والنسائي في الإمامة حديث ٨٦١ ، وابن ماجه في المساجد حديث ٧٧٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٧ ، ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، ٢٧٠ ، ٣٨٢ ، ٤٢٧ ، ٤٥٢ ، ٤٦٠ ، ٥٢٩.

٣٠٨

فأنتم ترون ذلك خيرا ، فإذا علمتموه خيرا أقبلتم عليه فكان ذلك خيرا لكم وصلاة الجمعة فرض عين تجب على كل من جمع الإسلام ، والبلوغ ، والعقل ، والحرية ، والذكورة ، والإقامة ، إذا لم يكن له عذرا مما ذكره الفقهاء ، ومن تركها استحق الوعيد. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله تعالى على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين» (١) وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها طبع الله تعالى على قلبه» (٢) قال ابن عادل : ونقل عن بعض الشافعية أن الجمعة فرض على الكفاية ، أما من به عذر يعذر به في ترك الجماعة مما يتصور هنا فلا تجب عليه ، وتجب على أعمى وجد قائدا وشيخ هرم وزمن وجدا مركبا لا يشق ركوبه عليهما.

واختلف أهل العلم في موضع إقامة الجمعة ، وفي العدد الذي تنعقد به الجمعة ، وفي المسافة التي يجب أن يؤتى منها ، فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلا بالصفة المتقدمة تجب عليهم إقامة الجمعة فيها ، وهو قول عبد الله بن عمر ، وعمر ابن عبد العزيز ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق قالوا : لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلا على هذه الصفة ، وشرط عمر بن عبد العزيز مع الأربعين أن يكون فيهم وال.

وعند أبي حنيفة تنعقد بأربعة ، والوالي شرط ، ولا تقام عنده إلا في مصر جامع. وقال الأوزاعي وأبو يوسف : تنعقد بثلاثة إن كان فيهم وال. وقال الحسن ، وأبو ثور : تنعقد باثنين كسائر الصلوات ، وقال شعبة : تنعقد باثني عشر رجلا ولا تجب الجمعة على أهل البوادي إلا إذا سمعوا النداء من موضع تقام فيه الجمعة ، فيلزمهم الحضور ، وإن لم يسمعوا فلا جمعة عليهم ، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق.

والشرط أن يبلغهم نداء مؤذن جهوري الصوت في وقت تكون الأصوات هادئة ، والرياح ساكنة فكل قرية تكون من موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة. وقال سعيد بن المسيب : تجب الجمعة على من آواه المبيت. قال الزهري : تجب على من كان على ستة أميال وقال ربيعة : على أربعة أميال ، وقال مالك والليث : على ثلاثة أميال ، وقال أبو حنيفة : لا جمعة على أهل البوادي سواء كانت القرية قريبة أم بعيدة.

دليل الشافعي ومن وافقه ما روى البخاري عن ابن عباس : «أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجد عبد القيس بجؤاثا من البحرين» ، ولأبي داود نحوه ، وفيه بجؤاثا قرية من قرى البحرين» (٣).

تنبيه : فضل يوم الجمعة مشهور وأحاديثه كثيرة مشهورة تقدم بعضها ، ومنها : أن الله يعتق في كل جمعة ستمائة عتيق من النار» (٤) ، وعن كعب : إن الله تعالى فضل من البلدان مكة ، ومن الشهور

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجمعة حديث ٨٦٥ ، والنسائي في الجمعة حديث ١٣٧٠.

(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ١٠٥٣ ، والترمذي في الجمعة حديث ٥٠٠ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١١٢٥.

(٣) أخرجه البخاري في الجمعة حديث ٨٩٢ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٠٦٨.

(٤) أخرجه بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد ٢ / ١٦٥.

٣٠٩

رمضان ، ومن الأيام الجمعة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ، ووقي فتنة القبر» (١) وفي الحديث «إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد بأيديهم صحف من فضة ، وأقلام من ذهب يكتبون الأول فالأول على مراتبهم» (٢) قال الزمخشري : وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج ، وقيل : أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة. وعن ابن مسعود : أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه فاغتم وأخذ يعاتب نفسه ويقول : أراك رابع أربعة ، وما رابع أربعة بسعيد. وعن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ـ أي : مثل غسلها ـ ثم راح في الساعة الأولى كان كمن قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة كأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر» (٣) وروى النسائي «في الخامسة كالذي يهدي عصفورا ، وفي السادسة بيضة ، فمن جاء في أول ساعة منها ، ومن جاء في آخرها مشتركان في تحصيل البدنة مثلا ، لكن بدنة الأول أكمل من بدنة الآخر ، وبدنة المتوسط متوسطة» (٤) وهذا في حق غير الإمام أما هو فيسن له التأخير إلى وقت الخطبة اتباعا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلفائه ، ويسن إكثار الدعاء يومها وليلتها ، أما يومها فلرجاء أن يصادف ساعة الإجابة ، وهي ساعة خفية وأرجاها من جلوس الخطيب إلى آخر الصلاة كما في خبر مسلم. قال النووي : وأما خبر : «يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة فيه ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر» (٥) فيحتمل أن هذه الساعة منتقلة تكون يوما في وقت ، ويوما في آخر كما هو المختار في ليلة القدر.

وأما ليلتها فبالقياس على يومها ، وقد قال الشافعي : بلغني أن الدعاء يستجاب في ليلة الجمعة ، ويسن إكثار الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يومها وليلتها لخبر : «أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا» (٦) وإكثار قراءة سورة الكهف يومها وليلتها لخبر : «من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» (٧) وخبر : «من قرأها يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» (٨) وفي هذا القدر كفاية.

ولما حث على الصلاة وأرشد إلى أن وقتها لا يصلح لطلب شيء غيرها بين لهم وقت المعاش بقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أي : وقع الفراغ منها على أيّ وجه كان (فَانْتَشِرُوا) أي : فدبوا وتفرقوا مجتهدين (فِي الْأَرْضِ) أي : جميعها للتجارة والتصرف في حوائجكم إن شئتم

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٣ / ٢١٧ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٣٨٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٧٦ ، ٢٢٠ بلفظ : «من مات يوم الجمعة ، وقي فتنة القبر».

(٢) أخرجه بنحوه النسائي في الجمعة حديث ١٣٨٥.

(٣) أخرجه البخاري في الجمعة حديث ٨٨١ ، ومسلم في الجمعة حديث ٨٥٠.

(٤) أخرجه النسائي في الجمعة حديث ١٣٨٧.

(٥) أخرجه النسائي في الجمعة حديث ١٣٨٩.

(٦) أخرجه ابن ماجه في الإقامة حديث ١٦٣٧.

(٧) أخرجه الدارمي في فضائل القرآن حديث ٣٤٠٧.

(٨) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٣ / ٢٤٩.

٣١٠

لا جناح عليكم ولا حرج رخصة من الله تعالى لكم (وَابْتَغُوا) أي : اطلبوا الرزق (مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي : الذي بيده كل شيء ولا شيء لغيره ، وهذا أمر إباحة كقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] قال ابن عباس : إن شئت فاخرج ، وإن شئت فاقعد ، وإن شئت فصل إلى العصر. وقيل : فانتشروا في الأرض ليس لطلب دنيا ، ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة ، وزيارة أخ في الله تعالى. وقال الحسن ، وسعيد بن جبير ومكحول (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) هو طلب العلم (وَاذْكُرُوا اللهَ) أي : الذي له الأمر كله (كَثِيراً) أي : بحيث لا تغفلون عنه بقلوبكم أصلا ولا بألسنتكم حتى عند الدخول إلى الخلاء وعند أول الجماع ، واستثني من الثاني وقت التلبس بالقذر كوقت قضاء الحاجة والجماع (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : تفوزون بالجنة والنظر إلى وجهه الكريم وعن جابر بن عبد الله «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها ، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا» (١) وفي رواية «أنا فيهم» فأنزل الله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً) أي : حمولا هي موضع للتجارة (أَوْ لَهْواً) أي : ما يلهي عن كل نافع (انْفَضُّوا) أي : نفروا متفرقين من العجلة (إِلَيْها) أي : التجارة لأنها مطلوبهم دون اللهو ، وأيضا العطف بأو فإفراد الضمير أولى. وقال الزمخشري : تقديره : إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وذكر الكلبي وغيره : أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عن مجاعة وغلاء سعر ، وكان معه جميع ما تحتاج إليه الناس من بر ودقيق وغيره ، فنزل عند أحجار الزيت وضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه ، فخرج الناس إلا اثني عشر رجلا ، وقيل : أحد عشر رجلا ، وقال ابن عباس في رواية الكلبي : لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط. وقال الحسن وأبو مالك : أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية ابن خليفة بتجارة زيت من الشام ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة ، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه ، فلما لم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي نارا» (٢).

وقال مقاتل بن حيان ، ومقاتل بن سليمان : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة وكان إذا قدم المدينة لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتته ، وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وغيره ، فينزل عند أحجار الزيت ، وكانت في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فخرج إليه الناس ليتبايعوا منه ، فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس ، ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرأة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو لا هؤلاء لرميت عليهم الحجارة من السماء» (٣) وأنزل الله تعالى هذه الآية والمراد باللهو الطبل.

وقيل : كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوا بالطبل والتصفيق. وقال علقمة : سئل عبد الله

__________________

(١) أخرجه البخاري في البيوع حديث ٢٠٥٨ ، ومسلم في الجمعة حديث ٨٦٣ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣١١.

(٢) أخرجه بنحوه ابن كثير في تفسيره ٤ / ٣٦٨ ، وابن حبان في صحيحه ٦٨٧٧.

(٣) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦ / ٢٢١.

٣١١

أكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب قائما أو قاعدا فقال : أما تقرأ (وَتَرَكُوكَ قائِماً) وعن جابر بن عبد الله قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس» (١) وذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة ، وقد كانوا خليقا لفضلهم أن لا يفعلوا ، فقال : حدثنا محمد بن خالد ، قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين ، حتى كان يوم جمعة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل يقال له : دحية بن خليفة قدم بتجارة ، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة وأخر الصلاة ، وكان لا يخرج أحد لرعاف أو حدث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام ، فيأذن له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يشير إليه بيده ، فكان في المنافقين من تثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد ، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستترا به حتى يخرج فأنزل الله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) [النور : ٦٣] الآية» (٢). قال السهيلي : وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوجب أن يكون صحيحا وقال قتادة : وبلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات كل مرة عير تقدم من الشام ، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة.

وقيل : إن خروجهم لقدوم دحية بتجارته ونظرهم إلى العير ، وهي تمر لهو لا فائدة فيه إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على ذلك الوجه ، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والانفضاض عن حضرته غلظ وكبر ، ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل. وقوله تعالى : (وَتَرَكُوكَ) أي : تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلا ، قال جابر : أنا أحدهم (قائِماً) جملة حالية من فاعل انفضوا ، وقد مقدرة عند بعضهم.

تنبيه : في قوله تعالى : (قائِماً) تنبيه على مشروعيته في الخطبتين ، وهو من الشروط للقادر على القيام ، وأما أركانهما فخمسة : حمد الله تعالى ، وصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظهما ، ووصية بتقوى الله ، وهذه الثلاثة في كل من الخطبتين ، وقراءة آية مفهمة ولو في إحداهما والأولى أولى ، ودعاء للمؤمنين والمؤمنات في ثانية ، ومن الشروط كونهما عربيتين ، وكونهما في الوقت ، وولاء ، وطهر ، وستر كالصلاة (قُلْ) يا أشرف الخلق للمؤمنين (ما عِنْدَ اللهِ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال (خَيْرٌ) ما موصولة مبتدأ وخير خبرها (مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) والمعنى : ما عند الله تعالى من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم ، وفائدة تجارتكم. وقيل : ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما اقتسمتموه من لهوكم وتجارتكم (وَاللهُ) أي : ذو الجلال والإكرام وحده (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي : خير من رزق وأعطى فاطلبوا منه ، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة. وما قاله البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها في أمصار المسلمين» (٣) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه النسائي في الجمعة حديث ١٤١٦ ، والدارمي في الصلاة حديث ١٥٥٨.

(٢) انظر القرطبي في تفسيره ١٨ / ١١١.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٥٣٩.

٣١٢

سورة المنافقين

مدنية وهي إحدى عشرة آية ، ومائة وثمانون كلمة وسبعمائة وستة وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له الإحاطة العظمى علما وقدرة (الرَّحْمنِ) الذي ستر بعموم رحمته من أراد من عباده (الرَّحِيمِ) الذي وفق أهل وده لما يحبه ويرضاه.

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))

(إِذا جاءَكَ) يا أيها الرسول المبشر بك في التوراة والإنجيل ، وقرأ حمزة وابن ذكوان بالإمالة والباقون بالفتح ، وإذا وقف حمزة سهل الهمزة مع المد والقصر ، وله أيضا إبدالها ألفا مع المد والقصر (الْمُنافِقُونَ) أي : الغريقون في وصف النفاق ، وهم عبد الله ابن أبي ابن سلول وأصحابه (قالُوا) مؤكدين لأجل استشعارهم بتكذيب من يسمعهم لما عندهم من الارتياب (نَشْهَدُ) قال الحسن : هو بمنزلة اليمين كأنهم قالوا نقسم (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) أي : الملك الذي له الإحاطة الكاملة فوافقوا الحق بظاهر أحوالهم ، وخالفوا بقلوبهم وأفعالهم. وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ) أي : وعلمه هو العلم في الحقيقة ، وأكد سبحانه بحسب إنكار المنافقين فقال تعالى : (إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) سواء أشهد المنافقون بذلك أم لا فالشهادة حق ممن يطابق لسانه قلبه جملة معترضة بين قولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وبين قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ) لفائدة.

قال الزمخشري : لو قال قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد انهم لكاذبون ، لكان يوهم أن قولهم هذا كذب فوسط بينهما قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ليميط هذا الإيهام

٣١٣

(وَاللهُ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال (يَشْهَدُ) شهادة هي الشهادة لأنها محيطة بدقائق الظاهر والباطن (إِنَّ الْمُنافِقِينَ) أي : الراسخين في وصف النفاق (لَكاذِبُونَ) أي : في إخبارهم عن أنفسهم إنهم يشهدون ، لأن قلوبهم لا تطابق ألسنتهم فهم لا يعتقدون ذلك ، ومن شرط قول الحق أن يتصل ظاهره بباطنه وسره بعلانيته ، ومتى تخالف ذلك فهو كذب ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم نشهد إنك لرسول الله وسماه الله تعالى كذبا لأن قولهم خالف اعتقادهم.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) أي : كلها من شهادتهم وكل يمين سواها (جُنَّةً) أي : سترة عن أموالهم ودمائهم ، روى البخاري عن زيد بن أرقم قال : كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي ابن سلول يقول : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ، وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا ، فصدقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبني ، فأصابني هم لم يصبني مثله فجلست في بيتي ، فأنزل الله عزوجل (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) إلى قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) وقوله (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) فأرسل إلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : «إن الله قد صدقك» (١) وروى الترمذي عن زيد بن أرقم قال : «غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء ، وكان الأعراب يسبقوننا فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ، ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه ، قال : فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه ، فانتزع حجرا ففاض الماء ، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه ، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره ، وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبي ، ثم قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ، يعني : الأعراب وكانوا يحضرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الطعام ، فقال عبد الله : إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمدا بالطعام فليأكل هو ومن عنده ، ثم قال لأصحابه : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال زيد : وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله بن أبي فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحلف وجحد ، قال : فصدقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبني قال : فجاء عمي إلي فقال : ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبك المنافقون ، قال : فوقع علي من جراءتهم ما لم يقع على أحد ، قال : فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر قد خفقت رأسي من الهمّ ؛ إذ أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعرك أذني ، وضحك في وجهي فكان ما يسرّني أنّ لي بها الخلد في الدنيا ، ثم إنّ أبا بكر لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قلت : ما قال لي شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي ، فقال : أبشر ثم لحقني عمر فقلت له : مثل قولي لأبي بكر ، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة المنافقين» (٢) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وروي «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتل منهم ، ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر يقود فرسه ، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبيّ ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٩٠٠ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٢٣١٢.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٢٣١٣.

٣١٤

واقتتلا فصرخ جهجاه : يا للمهاجرين ، وسنان يا للأنصار فأعان جهجاها جعال من فقراء المهاجرين ، ولطم سنانا ، فقال عبد الله لجعال : وأنت هناك وقال : ما صحبنا محمدا إلا لتلطم وجوهنا ، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ، عنى بالأعز نفسه ، وبالأذل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال لقومه : ماذا فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث ، فقال : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمد في عز من الرحمن وقوّة من المسلمين ، فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب ، فأخبر زيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله ، فقال : إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب ، قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصاريا ، قال : فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمدا يقتل أصحابه؟ وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله : أنت صاحب الكلام الذي بلغني ، قال : والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك ، وإنّ زيدا لكاذب فهو قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) فقال الحاضرون : يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام عسى أن يكون قد وهم» (١).

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لعلك غضبت عليه ، قال : لا ، قال : فلعله أخطأ سمعك ، قال : لا ، قال : فلعله شبه عليك ، قال : لا ، فلما نزلت لحق صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيدا من خلفه فعرك أذنه ، وقال : وعت أذنك يا غلام إنّ الله قد صدقك وكذب المنافقين» (٢).

تنبيه : سئل حذيفة بن اليمان عن المنافق فقال : الذي يصف الإيمان ولا يعمل به.

وروى أبو هريرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» (٣) وروى عبد الله بن عمر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ، ومن كان فيه خصلة منهنّ كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ، إذا ائتمن خان ، وإذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر» (٤) وروي عن الحسن أنه ذكر هذا الحديث فقال : إنّ بني يعقوب حدثوا فكذبوا ، ووعدوا فأخلفوا ، وائتمنوا فخانوا ، إنما هذا القول من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين ، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال شفقة أن تفضي بهم إلى النفاق ، وليس المعنى أنّ من ندرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق وقال عليه الصلاة والسلام : «المؤمن إذا حدث صدق ، وإذا وعد نجز ، وإذا ائتمن وفى» (٥) والمعنى المؤمن الكامل (فَصَدُّوا) أي : فسبب لهم اتخاذهم هذا أن أعرضوا بأنفسهم مع سوء البواطن وحرارة ما في الصدور ، وحملوا

__________________

(١) تقدم الحديث بلفظ قريب منه مع تخريجه.

(٢) تقدم الحديث مع تخريجه.

(٣) أخرجه البخاري في الإيمان حديث ٣٣ ، ومسلم في الإيمان حديث ٥٩ ، والترمذي في الإيمان حديث ٢٦٣١ ، والنسائي في الإيمان حديث ٥٠٢١.

(٤) أخرجه البخاري في الإيمان حديث ٣٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ٥٨ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٦٨٨ ، والترمذي في الإيمان حديث ٢٦٣٢ ، والنسائي في الإيمان حديث ٥٠٢٠.

(٥) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٨ / ١٢٢.

٣١٥

غيرهم على الإعراض (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : عن طريق الملك الأعظم الذي شرعه لعباده ليصلوا به إلى محل رضوانه ، ووصلوا إلى ذلك بخداعهم ومكرهم بجراءتهم على الأيمان الخائنة (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا) أي : جبلة وطبعا (يَعْمَلُونَ) أي : يجدّدون عمله مستمرّين عليه بما هو كالجبلة من جراءتهم على الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخلص عباده بالأيمان الخائنة.

ولما كانت المعاصي تعمي القلوب فكيف بأعظمها علله بقوله تعالى : (ذلِكَ) أي : سوء عملهم (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا.)

فإن قيل : إنّ المنافقين لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم ، فما معنى قوله تعالى : (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا؟) أجيب : بثلاثة أوجه :

أحدها : آمنوا ، أي : نطقوا بكلمة الشهادة ، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ، ثم كفروا أي : ثم ظهر كفرهم بعد ذلك ، وتبين بما اطلع عليه من قولهم إن كان ما يقول محمد حقا ، فنحن حمير ، وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات ، ونحوه قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) [التوبة : ٧٤] أي : وظهر كفرهم بعد أن أسلموا ، ونحوه (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [التوبة : ٦٦].

والثاني : آمنوا أي : نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام بقوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ١٤] إلى قوله (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] وهذا إعلام من الله تعالى بأنّ المنافقين كفار.

الثالث : أن يراد أنّ ذلك في قوم آمنوا ثم ارتدّوا (فَطُبِعَ) أي : فحصل الطبع وهو الختم مع أنه معلوم أنه لا يقدر على ذلك غيره سبحانه (عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : لأجل اجترائهم على ما هو أكبر الكبائر على وجه النفاق (فَهُمْ) أي : فتسبب عن ذلك أنهم (لا يَفْقَهُونَ) أي : لا يقع لهم فقه في شيء من الأشياء ، فهم لا يميزون صوابا من خطأ ، ولا حقا من باطل.

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ) أي : أيها الرسول على ما لك من الفطنة ونفوذ الفراسة ، أو أيها الرائي كائنا من كان بعين البصر (تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لضخامتها وصباحتها ، فإنّ عنايتهم كلها بصلاح ظواهرهم وترفيه أنفسهم ، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق.

قال ابن عباس : كان ابن أبيّ جسيما صحيحا فصيحا ذلق اللسان ، وقوم من المنافقين في مثل صفته وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستندون فيه ، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم (وَإِنْ يَقُولُوا) أي : يوجد منهم قول في وقت من الأوقات (تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) أي : لفصاحته فيلذذ السمع ويروق الفكر (كَأَنَّهُمْ) أي : في حسن ظواهرهم وسوء بواطنهم ، وفي عدم الانتفاع بهم في شيء (خُشُبٌ) جمع كثرة لخشبة ، وهو دليل على كثرتهم (مُسَنَّدَةٌ) أي : قطعت من مغارسها ممالة إلى الجدار. وقرأ أبو عمرو والكسائي بسكون الشين ، والباقون بضمها (يَحْسَبُونَ) أي : لضعف عقولهم وكثرة ارتيابهم لكثرة ما يباشرون من سوء أعمالهم (كُلَّ صَيْحَةٍ) أي : من نداء مناد في إنشاد ضالة ، أو انفلات دابة ، أو نحو ذلك واقعة (عَلَيْهِمْ) وضارّة لهم لجبنهم وهلعهم لما في قلوبهم من الرعب أن ينزل فيهم ما يبيح دماءهم. ومنه أخذ الأخطل (١) :

__________________

(١) البيت من الكامل ،وهو لجرير في ديوانه ص ٥٣ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٢٥،والعقد الفريد ٣/١٣٢.

٣١٦

مازلت تحسب كل شيء بعدهم

خيلا تكرّ عليهم ورجالا

ومنه قول الآخر (١) :

كأنّ بلاد الله وهي عريضة

على الخائف المطلوب كفة حابل

يخال إليه أنّ كل ثنية

تيممها ترمي إليه بقاتل

(هُمُ الْعَدُوُّ) أي : الكامل العداوة بما دل عليه الإخبار بالمفرد الذي يقع على الجمع ، إشارة إلى أنهم في شدّة عداوتهم للإسلام وأهله ، وكمال قصدهم وشدّة سعيهم فيه على قلب رجل واحد ، وإن أظهروا التودّد في الكلام ، والتقرّب به إلى أهل الإسلام فإنّ ألسنتهم معكم إذا لقوكم ، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم فهم عيون لهم عليكم (فَاحْذَرْهُمْ) لأنّ أعدى عدوّك من يعاشرك وتحت ضلوعه الداء لكنه يكون بلطف الله دائم الخذلان منكوسا في أكثر تقلباته بيد القهر والحرمان لسرّ قوله تعالى : (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي : أحلهم الملك المحيط قدرة وعلما محل من يقاتله عدوّ قاهر له أشدّ مقاتلة على عادة الفعل الذي يكون بين اثنين.

وقال ابن عباس : أي لعنهم الله ، وقال أبو مالك : هي كلمة ذم وتوبيخ ، وقد تقول العرب : قاتله الله ما أشعره فيضعونه موضع التعجب (أَنَّى) أي : كيف ، ومن أيّ جهة (يُؤْفَكُونَ) أي : يصرفهم عن قبح ما هم عليه صارف ما كائن ما كان ليرجعوا عما هم عليه ، وقال ابن عباس : أنى يؤفكون ، أي : يكذبون ، وقال مقاتل : أي : يعدلون عن الحق ، وقال الحسن : يصرفون عن الرشد ، وقيل : معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل ، وهو من الإفك.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي : من أيّ قائل كان (تَعالَوْا) أي : ارفعوا أنفسكم مجتهدين في ذلك بالمجيء إلى أشرف الخلق الذي لا يزال مكانه عاليا لعلوّ مكانته (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ) أي : يطلب الغفران لأجلكم خاصة من أجل هذا الكذب أي : الذي أنتم مصرّون عليه (رَسُولُ اللهِ) أي : أقرب الخلق إلى الملك الأعظم الذي لا شبيه لوجوده (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي : فعلوا اللي بغاية الشدّة والكثرة ، وهو الصرف إلى جهة أخرى إعراضا وعتوا ، وإظهارا للبغض والنفرة (وَرَأَيْتَهُمْ) أي : بعين البصيرة (يَصُدُّونَ) أي : يعرضون إعراضا قبيحا عما دعوا إليه ، مجدّدين لذلك كلما دعوا إليه ، والجملة في وضع المفعول الثاني لرأيت (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي : ثابتوا الكبر عما دعوا إليه ، وعن إحلال أنفسهم في محل الاعتذار فهم لشدّة غلظهم لا يدركون قبح ما هم عليه ، ولا يهتدون إلى دوائه ، وإذا أرشدهم غيرهم ونبههم لا ينتبهون.

فقد روي أنه لما نزل القرآن فيهم أتاهم عشائرهم من المؤمنين ، وقالوا : ويحكم افتضحتم وأهلكتم أنفسكم ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوبوا إليه من النفاق ، واسألوه أن يستغفر لكم فلووا رؤوسهم ، أي : حرّكوها إعراضا وإباء قاله ابن عباس.

وعنه : أنه كان لعبد الله بن أبي موقف في كل سبت يحض على طاعة الله وطاعة رسوله ، فقيل له : وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليك غضبان ، فأته يستغفر لك فأبى ، وقال : لا أذهب إليه. وروي أنّ ابن أبيّ رأسهم لوى رأسه ، وقال لهم : أشرتم عليّ بالإيمان فآمنت ، وأشرتم عليّ

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما بلا نسبة في لسان العرب (كفف) ، وتهذيب اللغة ٤ / ١٣٩ ، وتاج العروس (كفف) ، والأغاني ١٣ / ١٨٢.

٣١٧

بأن أعطي زكاة مالي ففعلت ، ولم يبق إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد فنزل (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) الآية. ولم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات.

ولما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب صلاحهم فهو يحب أن يستغفر لهم ، وربما ندبه إلى ذلك بعض أقاربهم ، قال تعالى منبها على أنهم ليسوا بأهل للاستغفار لأنهم لا يؤمنون : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) استغنى بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل (أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ) الله (لَهُمْ) أي : سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه ، ولا يعتدّون به لكفرهم (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ) أي : الملك الأعظم (لَهُمْ) لرسوخهم في الكفر (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له كمال الصفات (لا يَهْدِي الْقَوْمَ) أي : الناس الذين لهم قوّة في أنفسهم على ما يريدونه (الْفاسِقِينَ) أي : لأنهم لا عذر لهم في الإصرار على الفسق ، وهو المروق من حصن الإسلام بخرقه وهتكه مرّة بعد مرّة ، والتمرن عليه حتى استحكم فهم راسخون في النفاق ، والخروج عن مظنة الإصلاح.

(هُمُ) أي خاصة بخالص بواطنهم (الَّذِينَ يَقُولُونَ) أي : أوجدوا هذا القول للأنصار ، ولا يزالون يجددونه لأنهم كانوا مربوطين بالأسباب محجوبين عن شهود التقدير (لا تُنْفِقُوا) أي : أيها المخلصون في النصرة (عَلى مَنْ) أي : الذين (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أي : الملك المحيط بكل شيء ، وهم فقراء المهاجرين (حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي : يتفرّقوا فيذهب كل أحد منهم إلى أهله وشغله الذي كان له قبل ذلك.

قال البقاعي : وما درى الأجلاف أنهم لو فعلوا ذلك أتاح الله تعالى غيرهم للإنفاق ، أو أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعا في الشيء اليسير فصار كثيرا ، أو كان بحيث لا ينفد ، أو أعطى كلا يسيرا من طعام على كيفية لا ينفد معها كتمر أبي هريرة ، وشعير عائشة ، وعكة أمّ أيمن وغير ذلك كما روي غير مرّة ، ولكن (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الزمر : ٢٣] ولذلك عبر في الردّ عليهم بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ) أي : قالوا ذلك واستمرّوا على تجديد قوله ، والحال أنّ الملك الذي لا أمر لغيره (خَزائِنُ السَّماواتِ) أي : كلها (وَالْأَرْضِ) كذلك من الأشياء المعدومة الداخلة تحت مقدوره ، (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ومن الأشياء التي أوجدها فهو يعطي من يشاء منها ، حتى مما في أيديهم لا يقدر أحد على منع شيء من ذلك لا مما في يده ولا مما في يد غيره.

ونبه على سوء غباوتهم وأنهم تقيدوا بالوهم حتى سفلوا عن رتبة البهائم كما قال بعضهم : إن كان محمد صادقا فنحن شرّ من البهائم بقوله تعالى : (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ) أي : العريقين في وصف النفاق (لا يَفْقَهُونَ) أي : لا يتجدّد لهم فهم أصلا كالبهائم بل هم أضل ، لأنّ البهائم إذا رأت شيئا ينفعها يوما في مكان طلبته مرة أخرى ، وهؤلاء رأوا غير مرّة ما أخرج الله تعالى من خوارق البركات على يد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم ينفعهم ذلك ، ودل على عدم نفعهم بقوله تعالى : (يَقُولُونَ) أي : يوجدون هذا القول ويجدّدونه مؤكدين لاستشعارهم بأنّ أكثر قومهم ينكره (لَئِنْ رَجَعْنا) أي : أيتها العصابة المنافقة (إِلَى الْمَدِينَةِ) أي : من غزاتنا هذه ، وهي غزوة بني المصطلق حيّ من هذيل خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له : المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ) يعنون أنفسهم (مِنْهَا) أي : المدينة (الْأَذَلَ) يعنون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وهم كاذبون في هذا لكونهم تصوروا لشدة غباوتهم أنّ العزة لهم ، وأنهم يقدرون على إخراج المؤمنين (وَلَهُ) أي :

٣١٨

والحال أنّ كل من له نوع بصيرة يعلم أنّ الملك الأعلى هو الذي له وحده (الْعِزَّةُ) أي : الغلبة كلها (وَلِرَسُولِهِ) لأنّ عزتّه من عزته (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فعزة الله قهره من دونه ، وكل من عداه دونه وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها ، وعزة المؤمنين نصر الله تعالى إياهم على أعدائهم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ) أي : الذين استحكم فيهم مرض القلوب (لا يَعْلَمُونَ) أي : لا يوجد لهم علم الآن ، ولا يتجدد في حين من الأحيان فلذلك هم يقولون مثل هذا الخراف.

روي أنه لما نزلت هذه الآية جاء عبد الله ولد عبد الله بن أبي ابن سلول الذي نزلت هذه الآيات بسببه كما مرّ إلى أبيه ، وذلك في غزوة المريسيع لبني المصطلق فأخذ بزمام ناقته ، وقال : أنت والله الذليل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العزيز. ولما أراد أن يدخل المدينة عبد الله بن أبي اعترضه ابنه حباب ، وهو عبد الله غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسمه ، وقال «إن حبابا اسم شيطان» (١) وكان مخلصا ، وقال : وراءك والله لا تدخلها حتى تقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأعز وأنا الأذل ، فلم يزل حبيسا في يده حتى أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخليته. وروي أنه قال : لئن لم تقرّ لله ولرسوله بالعزة لأضربنّ عنقك ، فقال : ويحك أفاعل أنت؟ قال : نعم ، فلما رأى منه الجدّ ، قال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابنه «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا» (٢).

فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى ختم الآية الأولى بقوله تعالى : (لا يَفْقَهُونَ) وختم الثانية بقوله تعالى : (لا يَعْلَمُونَ؟.)

أجيب : بأنه ليعلم بالأولى قلة كياستهم وفهمهم ، وبالثانية حماقتهم وجهلهم. ويفقهون من فقه يفقه كعلم يعلم ، أو من فقه يفقه كعظم يعظم ، فالأوّل لحصول الفقه بالتكلف ، والثاني لا بالتكلف ، فالأول علاجي ، والثاني مزاجي.

ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن التشبه بالمنافقين فقال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بالإيمان ، وقلوبهم مذعنة كظواهرهم (لا تُلْهِكُمْ) أي : لا تشغلكم (أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) سواء كان ذلك في إصلاحها ، أو التمتع بها بحيث تغفلون (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي : الملك الأعظم حذر المؤمنين أخلاق المنافقين ، أي : لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون ؛ إذ قالوا لأجل الشح بأموالهم (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) وقوله تعالى : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) قال الضحاك : أي : عن الصلوات الخمس ، نظيره : قوله تعالى : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٧] وقال الحسن : عن جميع الفرائض ، كأنه قال : عن طاعة الله تعالى. وقيل : عن الحج والزكاة. وقيل عن قراءة القرآن ، وقيل : عن إدامة الذكر ، وقيل : هذا خطاب للمنافقين ، أي : آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب.

ولما كان التقدير فمن انتهى فهو من الفائزين عطف عليه قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ) أي :

__________________

(١) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٣ / ٢ / ٩٠.

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٣١٩

يوقع في زمن من الأزمان على سبيل التجديد والاستمرار فعل (ذلِكَ) أي : الأمر البعيد عن أفعال ذوي الهمم من الانقطاع إلى الاشتغال بالفاني والإعراض عن الباقي (فَأُولئِكَ) البعداء عن الخير (هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : العريقون في الخسارة في تجارتهم ، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني ، حتى كأنهم مختصون بها دون الناس ، وذلك بضد ما أرادوا.

(وَأَنْفِقُوا) أي : ما أمرتم به من واجب أو مندوب كما قاله بعض المفسرين ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يريد زكاة الأموال ، وهو ظاهر الأمر.

ثم إنّ الله تعالى زاد في الترغيب بالرضا منهم باليسير بقوله تعالى : (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) أي : بعظمتنا. قال الزمخشري : من في (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) للتبعيض ، والمراد الإنفاق الواجب ا. ه. ثم قال تعالى محذرا من الاغترار بالتسويف في أوقات السلامة : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي : يرى دلائله وأماراته وكل لحظة مرّت فهي دلائله وأماراته. قال القرطبي : وهذا دليل على وجوب تعجيل إخراج الزكاة ، ولا يجوز تأخيرها أصلا ، أي : بلا عذر ، وكذا سائر العبادات إذا دخل وقتها. وقال الرازي : وبالجملة فقوله تعالى : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) تنبيه على المحافظة على الذكر قبل الموت ، وقوله تعالى : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) تنبيه على الشكر كذلك.

ولما كانت الشدّة تقتضي الإقبال إلى الله تعالى سبب عن ذلك قوله تعالى : (فَيَقُولَ) أي : سائلا في الرجعة ، وأشار إلى ترقيقها للقلوب بقوله : (رَبِّ لَوْ لا) أي : هلا ولم لا (أَخَّرْتَنِي) أي : أخرت موتي إمهالا (إِلى أَجَلٍ) أي : زمان ، وقوله (قَرِيبٍ) بين به أن مراده استدراك ما فات ليس إلا ، وقيل : لا زائدة ولو للتمني أي : لو أخرتني إلى أجل قريب (فَأَصَّدَّقَ) أي : للتزوّد في سفري هذا الطويل الذي أنا مستقبله.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت ، فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل. وعنه : ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي ، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت ، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها. وعنه : أنها نزلت في مانعي الزكاة ، وو الله لو رأى خيرا ما سأل الرجعة ، فقيل له : أما تتقي الله يسأل المؤمنون الكرّة ، قال : نعم أنا أقرأ عليكم قرآنا يعني : أنها نزلت في المؤمنين ، وهم المخاطبون بها. وكذا عن الحسن : ما من أحد لم يزك ، ولم يصم ، ولم يحج إلا سأل الرجعة. وقال الضحاك : لا ينزل بأحد لم يحج ولم يؤدّ الزكاة الموت إلا وسأل الرجعة ، وعن عكرمة : نزلت في أهل القبلة.

وقيل : نزلت في المنافقين ، ولهذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال هذه الآية تدل على أنّ القوم لم يكونوا من أهل التوحيد ، لأنه لا يتمنى الرجوع إلى الدنيا والتأخير فيها أحد له عند الله تعالى خير في الآخرة ، أي : إذا لم يكن بالصفة المتقدمة. قال القرطبي : إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل لما يرى من الكرامة. وقرأ وأكون من الصالحين أي : العريقين في هذا الوصف بالتدارك أبو عمرو بواو بعد الكاف ونصب النون عطفا على فأصدّق ، والباقون بحذف الواو لالتقاء الساكنين وجزم النون.

واختلفت عبارات الناس في ذلك ، فقال الزمخشري : عطفا على محل فأصدّق ، كأنه قيل : إن أخرتني أصدق وأكن. وقال ابن عطية : عطفا على الموضع لأنّ التقدير : إن أخرتني أصدّق

٣٢٠